إنه تاريخ المواقف، بغض النظر عن الأيام والليالى، لا يعنى يوم كذا كان، ولا ليلة كذا، ولا ساعة كذا، وإنما المهم أنه كان، وصار تاريخاً عند من وعاه، وترتب عليه ما ترتب، ومن هذا التاريخ الذى لم يلتفت إليه أحد تاريخ حب أنس بن مالك - رضى الله عنه - خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقثاء (القرع)، فقد دُعى - صلى الله عليه وسلم - إلى طعام، وكان معه أنس - رضى الله عنه - ووضعت الصحفة أمامه - صلى الله عليه وسلم - وفيها لحم، وقطع من القثاء، ولاحظ أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - يتتبعها، أى يلتقطها، فأخذ أنس يدفع بما أمامه منها نحو موضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذى يأكل منه، حتى يأكل ما يحب، قال أنس: فما أحببت القثاء إلا من يومئذ، لما رأيت من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها.
ما قال: ما أحببت القثاء إلا يوم السبت السادس من المحرم، أو أكتوبر، وإنما أحبها من يوم رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبها، ولا بأس بالجمع بين الموقف، وتاريخه، ومكانه، لكن استقرار المعنى فى القلب أهم.
كثيرون الذين يحفظون يوم ميلادك، ويقولون لك: كل عام وأنت بخير، وعقبال مائة سنة، وفيهم من لا يحفظ لك موقفاً، يرعاه من أجلك، ويحرص على شىء تحبه.
وما أكثر المواقف التى قدم فيها المحبون ما يحب أحبتهم وتأخروا فى عيد الميلاد عن التهنئة، وتقديم هدية، انظر إلى تلك الشابة المتزوجة التى تحب السمك مثلاً، فأتاها زوجها بصنوفه الغالية التى تشتهيها، على مدى العام، فى كل شهر على الأقل مرة، أليست هذه مواقف متعددة متكررة، فإذا تأخر عن الاحتفال بيوم ميلادها أو زواجها منه أقامت الدنيا، وقالت: تراك أنسيت، ولا على بالك، طبعاً، شغلتك غيرى وكذا وكذا، إلى آخر ما يكون من غضب وثورة، بلا شك أنها لو أخذت هذا الدرس من أنس بن مالك لكان خيراً وكان ذلك كافياً، ومقنعاً فى إثبات الحب، واستمرار الحياة على أكمل وجه.
ثم هذا الذى يقول لك: كل عام وأنت بخير، وميلاد سعيد، وعمر مديد، وعقبال مائة سنة، هل يسعدك قوله، وهو الذى لا يذكرك بشىء تحبه طوال العام، هل تحب أن تعيش هكذا مائة عام، أى هل تحب أن ينساك صديقك أو أحد من أهلك طوال العام.
فإذا جاء تاريخ ميلادك قال لك هذا، إنه - عند التحقيق - يدعو عليك بأن تظل محروماً طوال العام إلا فى هذا اليوم، الذى يسوق إليك فيه شمعة وقطعة حلوى، ويغنى لك (هابى بيرث داى تويو)، نحن لا نريد (DAY) ولكن نريد (Every day)، أى لا نريد يوماً فى العام، ولكن نريد ألف عام فى كل يوم بالمودة والصلة والتراحم.
إن مثل هذا الذى نحن عليه من باب (الحالة) حالة العطف كلما جاء زمان معين، ومناسبة معينة، مثل رمضان، حينما تكثر الموائد، ويشيع العطف والإحسان، وبانتهاء رمضان يرفع ذلك كله، ومثل الأعياد.
حيث تبادل التهنئة والزيارات، وكذلك أعياد الميلاد والزواج وغيرها، والدين لمن فهمه (حياة) لا حالة، انظر إلى عماد هذا الدين: الصلاة، خمس مرات كل يوم وليلة فى المسرة، وفى المضرة، فى الإقامة والسفر، وفى الصحة والمرض، وقد قال تعالى فى صفات عباده المتقين الذين أعد لهم جنات عرضها السماوات والأرض: «الذين ينفقون فى السراء والضراء»، ألا يدل ذلك على الاستمرار، وهل الاستمرار إلا حياة، وهل الانقطاع إلا حالة؟ فمن عاش الدين حالة فقد عمى، والإسلام يعالج العمى بأن نعيش الدين عبادة ومعاملة، حياة لا حالة.