النبى- صلى الله عليه وسلم- أرسله الله رحمة للعالمين، والرحمة لا ناسخ لها، فليست فى حاجة إلى تاريخ الأوراق، نزلت الآية، وبقيت، فما نسخت تلاوة ولا حكماً، وتجسدت فيه، صلى الله عليه وسلم، معنى، وشكلاً، فغرسها فى الوجود قبلها من وفَّقه الله- تعالى
إلى طاعته، وأباها من غلبت عليه شقوته وآثر العمى على الهدى، والظلام على النور، والغواية على الهداية، لست فى حاجة إلى تاريخ الأوراق، وإنما أنت فى حاجة إلى تاريخ القلوب، «وإذا الموؤودة سئلت بأى ذنب قتلت».
وقضية القضايا اليوم ليست بين المسلمين والمسيحيين، والمسلمون ليسوا طرفا متهما بالعدوان على كنائس إخوانهم المسيحيين، وإنما هى قضية الإنسان، الذى لو لم يجد أحداً يفتك به لفتك بنفسه، أما رأيت الشاعر الحطيئة الذى لما لم يجد أحداً يهجوه «يشتمه» هجا أمه التى حملته وولدته وأرضعته، وقال لهاأراح الله منك العالمينا.
ثم هجا نفسه من بعد ذلك، فذمها وشتمها، والجاهلى من قديم، وقبل أن تشرق شمس الرحمة المحمدية على البرية، كان يعتدى على عمرو أخيه إن لم يجد إلا أخاه ومن ثم كان بناء الإنسان هو المعول عليه فى دين الله- عز وجل- لأنه إذا سلم فأول الذين يسلمون هو قبل غيره، فتحقيق السلام مع النفس أول معالم هذا البناء وأول مرحلة فيه: «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك فى أى صورة ما شاء ركبك» وقال تعالى: «خلق الإنسان من عجل» والعجول يستعجل كل شىء، ومن ذلك استعجال العذاب، ألم تر إلى الكفار كيف قالوا لأنبياء الله: ائتونا بعذاب الله، وقولهم «إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» وقال سبحانه: «سأل سائل بعذاب واقع» فلما جاء العذاب قالت الرسل «بل هو ما استعجلتم به» لذلك كان من أهم معالم الخطاب الدينى الدعوة إلى الصبر، والصبر موضوع لا يكاد الناس يعرفون عنه إلا الصبر على الشدة والابتلاء، وهو واسع الأطراف، متعدد الأنحاء ومنه الصبر الجميل، الذى حدثنا عنه ربنا تعالى- فى كتابه العزيز، والذى جاء بيانه فى آية يوسف «إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله».
ومن شكا بثه وحزنه إلى الله لا يرى الناس منه إلا خيراً لأنهم ليسوا الذين يشكو إليهم، قال تعالى «قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله» فكانت سبباً فى التفريج عن مثيلاتها إلى يوم القيامة بنزول كفارة الظهار الذى كان طلاقا فى الجاهلية، فلم يعد طلاقاً فى الإسلام، ولا شك أن الشاكى إلى الله- وهو صابر- متضرع إليه، أى يدعوه فى ثبات وخشوع، لا فى تمرد وثورة واضطراب قال- صلى الله عليه وسلم- أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وذلك حين ارتفعت أصوات الناس بالدعاء، فماذا تنتظر من إنسان هذه حاله إلا أن تراه أجمل وأهدأ وأقوم فى معاملة الناس، ومن الصبر الذى لم يسمعه الناس فى خطاب الهواة من الدعاة إتقان العمل، والصبر عليه سبيل هذا الإتقان، قال تعالى «واصطبر عليها» وقال جل فى علاه: «ولتصنع على عينى» أى على نور هدايتى وتوفيقى، والصبر على نعمة الله الذى يقتضى شكرها والتسارع بها فى الطاعة لا المعصية، ومجمل القول فى الصبر وأساسه حبس النفس، والنفس أمارة بالسوء، فإذا بنينا الإنسان على الصبر ضمنا حبسه نفسه عن كل أذى يلحقه بالآخرين أما الهيجان الذى صار سمة الناس فى زماننا فلا أصل له بل هو من العمى، والإسلام يعالج العمى.