استمعنا إلى الرئيس حسنى مُبارك ونائبه اللواء عُمر سليمان، بعد بدء المُظاهرات العارمة، التى اجتاحت القاهرة، والإسكندرية، وبقية مُدن مصر، من أسوان إلى الإسكندرية بخمسة أيام كاملة. وليتهما ظلا صامتين ولم يتحدثا... فقد كان صمتهما يحتمل أنهما مشغولان بالتأمل فى ثورة الجماهير، وبالبحث عن حلول عقلانية للتعامل مع الثورة التى بدأت يوم الثلاثاء ٢٥ يناير ٢٠١١.
ولكن النكبة الكُبرى أن الرئيس ونائبه أعطيا الانطباع بأنهما لم يُبصرا ولم يسمعا غضب شعبهما.. أو الأسوأ أن يكونا قد أبصرا ما حدث فى ذلك اليوم، وفى الأيام التالية، ولكنهما ظّلا يُنكران أن مصر تشهد ثورة شعبية غير مسبوقة فى تاريخها الحديث، بما فى ذلك ما كان قد حدث بعد الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨) والتى عرفت بثورة ١٩١٩.
ربما لم يُدرك الرئيس ونائبه ما يحدث فى الشارع المصري، لأنهما لم يُشاركا أبداً، طوال حياتهما، فى أى عمل ثورى، سياسياً أو اجتماعياً. ففيما قرأناه عنهما (مُبارك وسليمان) أنهما عاشا طوال حياتهما المهنية موظفين حكوميين، وفى أكثر مؤسسات الدولة انضباطاً وهما بطبيعتهما شخصان منعزلان عن بقية المجتمع ثم إن كلا الرجلين بلغ من العُمر أرذله (٨٣ و٧٦ سنة على التوالى). أى أن الفارق العُمرى بينهما وبين المُتظاهرين فى ميدان التحرير هو حوالى خمسين عاماً، أى يفصل بينهما جيلان (الجيل ٢٥ سنة). فهناك بالقطع فجوة جيلية طويلة وعميقة.
وربما كان سيُخفف من وطأة هذه الفجوة الجيلية لو كان الرجلان لديهما أولاد فى العشرينيات من العُمر. ولكن واقع الحال هو أن أولاد الأول، وبنات الثاني، هم فى الأربعينيات من العُمر أى يكبرون المُتظاهرين بعشرين سنة على الأقل. وهو ما يُمثل بدوره فجوة جيلية، فإذا أضفنا إلى ذلك غطرسة الكبار من المسؤولين نحو الشباب، وهو الأمر الذى يعوق التواصل والتفاهم، ناهيكم عن التعاطف والاستجابة للمطالب.
إن جيل هؤلاء، قد تصلبت معظم الشرايين التى تضخ الدماء والأكسجين إلى أدمغتهم. وإلا بماذا تفسر كيف يظل مُبارك ونائبه يُرددان نفس الأسطوانة المشروخة، التى تُرجع كل مشاكل الداخل المصرى إلى مؤامرات أو عُملاء من الخارج. ولم يُفكر الرجلان، كيف سيبدو ذلك سخيفاً وساذجاً! إذ كيف للخارج أن يُجنّد مليونى شاب مصرى للتظاهر ضد الرئيس مُبارك، وليس فى مدينة واحدة أو مدينتين، ولكن فى كل المدن المصرية؟
ولم يتوقف الرجلان للتفكير والتساؤل: كيف يخرج مليونا شاب مصرى للتظاهر السلمي، رغم أن لديهما مليوناً ونصف المليون من قوات الأمن المركزى والشرطة والمُسلحين بكل أنواع أسلحة التخويف والترويع والفتك؟
كذلك لم يتوقف الرجلان فى مصر المحروسة، للتدبر وإعادة التفكير والحساب، بعد أن تجاوز عدد ضحاياهم ثلاثمائة قتيل، وآلاف الجرحى، ومع ذلك يظل المتظاهرون فى مواقعهم صامدين، بل وتزداد أعدادهم، فى مدينة مصرية بعد أخرى؟
إن ثالثة الأسافى، هو أن يُصرّح عُمر سليمان نائب الرئيس، لوسائل الإعلام الخارجية بـ«أن المصريين ليسوا جاهزين للديمقراطية».
إن هذا التصريح هو قمة مأساة النظام الذى يرأسه حسنى مُبارك، ونائبه عُمر سليمان، فلو كان ذلك صحيحاً، لكانا هما المسؤولين الرئيسيين. فإذا كانا، وهما فى السُلطة، لم ينجحا فى تأهيل شعبهما خلال ثلاثين عاماً، أليس من المنطقى أن يتخلياً عن السُلطة لغيرهما، ممن يستطيعون أن يقوموا بتأهيل شعبهم المصرى للديمقراطية؟ أم أنهما سعيدان بإبقاء الشعب بلا تأهيل للديمقراطية، حتى يستمرا فى استخدام هذه الوصمة كشمّاعة، لإنكار حق المصريين فى الحُرية والديمقراطية؟
طبعاً، لو كان السيد النائب عُمر سليمان قد قرأ شيئاً من تاريخ وطنه المصري، لكان قد أدرك أن المصريين مارسوا الديمقراطية، منذ عام ١٨٦٦، مع انتخاب أول مجلس لشورى النواب فى عهد الخديو إسماعيل. أى أن أول برلمان فى مصر الحديثة، ظهر إلى الوجود قبل أن تولد «إيطاليا» و«ألمانيا» اللتان لم تتوحدا، إلا عام ١٨٧٠. ربما لم تكن تلك المُمارسة الديمقراطية المُبكرة مُكتملة أو ناضجة تماماً، ولكن مصر سبقت معظم بُلدان العالم فى مسيرتها الديمقراطية.
فلو كان رئيس جهاز المُخابرات السابق، قد خصّص ولو ساعة واحدة كل يوم، أو حتى كل أسبوع، لقراءة التاريخ المصرى الحديث، لما ارتكب الرجل هذا الخطأ الفادح، فى حق شعبه وفى حق التاريخ. هذا فضلاً عن أنه لو قارن شعبه المصرى بشعوب أفريقية شقيقة مثل (تنزانيا، وكينيا، وجنوب أفريقيا)، أو بشعوب أسيوية مثل (الهند، وكوريا، وسيرالانكا)، أو بشعوب إسلامية مثل (إندونيسيا، وماليزيا، وتركيا)، أو بشعوب عربية مثل (لبنان، والكويت، والمغرب، وموريتانيا)، لو فعل الرجل ذلك، لما سقط هذه السقطة الرهيبة.
فإذا كان لى أن أسدى نصيحة للسيد عُمر سليمان فهى أن يستجمع كل شجاعته، ويتوجّه إلى ميدان التحرير، حتى يكتشف أن جيلاً جديداً من أبناء وبنات وأطفال مصر، قد أسّسوا بالفعل «ديمقراطية» حقيقية. فهم يُديرون حياتهم اليومية للأسبوع الثالث إدارة ذاتية. فلديهم نظام للإعاشة، وتوفير المرافق والخدمات، لآلاف المتظاهرين فى ميدان التحرير. بما فى ذلك جمع القمامة، وحفظ النظام. وإذا كان هناك من عُنف على الإطلاق، خلال تلك الأسابيع الثلاثة، فقد كان بسبب القوات الأمنية لنظام الرئيس مُبارك.
لقد أفرزت «ثورة اللوتس» المصرية، عبقريات شعبية وتنظيمية عديدة. كما فعلت نفس الشىء فى توليد جيل جديد من القادة الشباب، الذين يُنكرون ذواتهم، ولا يدّعون أى بطولات، رغم أنهم فعلاً أبطال وبطلات بكل المقاييس.
فتحية لهم جميعاً، ولثورة اللوتس المصرية..