لم يكن هناك من يتصور أن تنجح ثورة الشباب فى تحقيق غالبية أهدافها بهذه السرعة.. ولم يكن بيننا من تصور أن شباب مصر على هذه الدرجة من الوعى والفهم والتحضر.. فقد نظموا مظاهرة محترمة، وكانوا حريصين على نظافة الميدان طوال فترة التظاهر، وكانت وقفتهم سلمية بنسبة ١٠٠٪، هدفها التعبير عن الرأى والمطالبة بالتغيير، وكان من الطبيعى أن يحاول البعض القفز على هذا النجاح، وكان من الطبيعى أن تسعى جهات غريبة كى تنسب لنفسها ما تحقق، وكان من الطبيعى أن يندس بينهم مزايدون، وكان من الطبيعى أيضاً أن يغضب النظام مما اضطر للاستجابة له.
وكما أن لهؤلاء الشباب الغاضب حقه فى التعبير عن رأيه، فإن للمؤيدين للرئيس مبارك حقهم فى التعبير عن رأيهم، ومن حقهم تسيير المظاهرات بالطريقة نفسها، ولكن المؤسف أن هذه التظاهرات المؤيدة اتجهت صوب ميدان التحرير الذى يتظاهر فيه المعارضون قبل أسبوع من يوم الأربعاء الدامى. والمؤكد أن هذه المظاهرات التى خرجت يوم الأربعاء الماضى لتأييد الرئيس مبارك لم تكن عفوية، ولم تكن على المستوى نفسه من التحضر، ومن المؤكد أن هذه المظاهرات خرجت بتخطيط فى توقيت واحد لتخفيف الضغط على الرئيس، خاصة بعد أن قدم تنازلات رفض أن يقدمها عبر ٣٠ عاماً، وهنا لابد أن نسأل عن الشخصية أو مجموعة الشخصيات التى خططت لهذه المظاهرات؟!
وأيا كان اسم أو أسماء أو صفات هؤلاء المخططين لمظاهرات تأييد الرئيس، فلابد من إعلان أسمائهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية، فميادين مصر كثيرة وكبيرة، ويمكن التظاهر فيها كلها تأييداً للرئيس، دون أن يمثل ذلك خطورة، ولكن أن يدفع مخططو المظاهرة بها إلى ميدان التحرير نفسه، فلابد هنا أن نفهم الهدف، فمن خطط كان يريد المواجهة، وكان يريد أن يلقن المعارضين الذين أجبروا النظام على تقديم تنازلات، درساً قاسياً، ولا مانع من إزهاق أرواح بعضهم حتى يكونوا عبرة لمن يريد أن يعتبر. استخدم المتظاهرون المؤيدون للرئيس، الذين وصفهم التليفزيون المصرى بأنهم مؤيدون للاستقرار، كل أنواع العنف مع الشباب الذى تظاهر فى الميدان قبل ذلك بأيام، دخلوا عليهم بالجمال والبغال والخيول وعربات الكارو فى مشهد همجى أعطى انطباعاً بأن مصر عادت للقرون الوسطى، واستخدموا السياط والعصى الغليظة والطوب، وفى نهاية اليوم استخدموا كرات اللهب والرصاص الذى أطلق من فوق أسطح العمارات المحيطة بالميدان.
من دبر هذه الجريمة؟! ومن الذى حول المظاهرات المتحضرة إلى مشهد دموى؟! وأين الدولة هنا بسلطاتها وهى تشاهد شباباً مصرياً يقتل على الهواء مباشرة على جميع شاشات الفضائيات فى العالم كله، ولم تتدخل؟! من الذى أفسح المجال لهؤلاء كى يدخلوا الميدان ويفترسوا الشباب الغاضب؟! هل أصبحت صورة مصر الآن محترمة أمام العالم؟! ما الرسالة التى نفهمها من ذلك سوى أن هؤلاء دُفعوا دفعاً لتأديب المتظاهرين الغاضبين والانتقام منهم؟! هل تحسنت صورة الرئيس بهذه الأفعال الحمقاء؟!
يا سادة، الذين خرجوا فى مظاهرات الغضب كانوا شباباً مصريين نفخر بهم، والذين خرجوا لتأييد مبارك لهم الحق فى رأيهم، ولا يمكن أن نظل نفكر بهذه الطريقة الساذجة، ونرتكب جرائم ضد شعب مصر أو فئة منه، لأن فئة أخرى تريد أن تظل الأحوال كما هى لأنها ببساطة مستفيدة من استمرارها!!
أوجه بعض اللوم للشباب الغاضب الذين أفخر ويفخر بهم كل مصرى، لأنهم لم يعرفوا كيف يحددوا سقفاً للمطالب، فقد نجحوا خلال أسبوع واحد فى تحقيق ما عجزت عنه كل القوى السياسية خلال ٣٠ عاماً، أجبروا الرئيس على تعيين نائب، وكان دائماً يقول إنه يفكر فى الأمر كلما سئل عنه، وأجبروا الرئيس على التعهد بعدم الترشح مرة أخرى للرئاسة، كما أجبروه على التعهد بإجراء تعديلات دستورية تضمن تحقيق سقف زمنى للرئاسة، وتضع إجراءات أسهل للترشح لها، ومادام ذلك قد حدث فلم يكن مقبولاً أن نضغط أكثر لرحيله فوراً، وكان مطلوباً أن نصبر عدة شهور لنرى مدى وسرعة تنفيذه لتعهداته.
واللوم كل اللوم على رجال النظام الذين دفعوا متظاهرين للاشتباك مع الشباب الغاضب فى ميدان التحرير، فقد ارتكبوا جريمة ضد الإنسانية تقتضى محاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأساءوا للرئيس أكثر مما أساء المعارضون له، وشوهوا صورة مصر تشويهاً كاملاً، وقتلوا أبرياء عزلاً وأصابوا المئات منهم، وتسجيلات الفضائيات ستثبت هذه الجرائم بكل سهولة.
والأهم من هذا وذاك، أننا الآن فى حاجة لصوت العقل، فقد عرف الرئيس ورجاله أن مصر يجب أن تتغير، ولا يملكون أن يعيدوا الزمن للخلف، وعلينا جميعاً أن نفكر فى مستقبلنا بشكل أفضل، ولا يمكن أن يحدث ذلك فى ظل هذا المناخ.. تحيا مصر.