لا برد الشتاء ولا الغازات السامة التى تزهق الأرواح، ولا الرصاص المطاط الذى انغرس فى الجباه الغضة وفى الأذرع الممدودة بهتافات من القلب.. لا جوع ولا عطش.. لم يمنعكم شىء.. فجأة استعادت مصر عافيتها.. فجأة نهض الشباب الذى اعتقدت - عفواً - أنه تغرب ولم يعد يهمه الوطن.. فجأة أصبح كل منكم نفساً من أنفاس الوطن.. فجأة أنبتم عنا جميعاً واخترتم ميدان التحرير بشكل عفوى، لكنه حمل معكم معنى الاسم.. ها هى كيمياء المصريين العظيمة تعود.. سكان الزمالك أصحاب السيارات تركوا سياراتهم وتآخوا مع زملائهم سكان المنيرة والمنيل والسيدة زينب.. سكان المعادى أوصلهم المترو لمحطة جمال عبدالناصر.. والسر فى الاسم.. وفى الزحمة وبالرغبة فى الخلاص من الفساد والرغبة فى مكافحة كل أنواع الجوع.. سواء الثقافى جوع العقل.. أو المادى جوع المعدة.. قاومتم جوع المعدة بصحوة العقل.
وطالبتم.. وطالبتم.. أحسست بأن عافيتى التى هدها الزمن عادت فيكم.. كان التليفزيون يحمل لى الوجوه السمر الغاضبة فى سماح المصممة فى كفاح.. لم أشعر فى عمرى هذا بالضيق لعدم المقدرة على التلاحم معكم إلا فى هذا الأسبوع.. تذكرت عافيتى يوم تنحى عبدالناصر فى ٩ يوليو عام ١٩٦٧ وأنا أخرج مع الصديقة الغالية خديجة قاسم ونجرى على أقدامنا عابرين نفق الهرم بحثاً عن مكتب برقيات لنرسل له أن يبقى.. فقد كان شرف التنحى مؤثراً فينا وجعلنا نرفض التنحى.
تذكرتكم فى وقفتكم وأى سعادة تشعرون بها.. وأنتم الفاعلون من أجل الوطن!
وأى سعادة والدولة تستجيب.. وأنتم ترفضون إلا مشروعكم كاملاً!.. والدولة لأول مرة منذ ثلاثين عاماً يتنازل الرئيس ويختار نائباً له!.. وأمريكا دائماً تراهن على نواب الرؤساء.. ولكنكم ترفضون.. أتأمل الوجوه التى هدها التعب والنوم على النجيلة فى ميدان التحرير.. انتظاراً وسحب رصيد عافية لكفاح يوم جديد.
ومثل أى معركة.. معركة غير متكافئة يا أحبائى.. معركة تحكمها المؤامرات والحسابات وعدم التصديق بترك كل هذه المكاسب.. إنها خمرة الكرسى تجعل المعركة تأخذ شكلاً تآمرياً.. وأنتم صامدون.. ويسقط الشهداء.. ويسقطون دون جنازات ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون.. وأنتم تكملون.
ونحن فى البيت نمد الأيدى بالدعاء.. ونشد الأزر، والمؤامرات تحاك.. ولكن هيهات فقد خرج المارد ولن يتخاذل.. إياكم والتخاذل؟.. إياكم وهبوط الهمم؟.. إياكم والتنازلات.. إنكم لا تثورون لأنفسكم ولكنكم تثورون للتاريخ ولأجيال مقبلة.. وبزوغ فجر جديد.
إن ثورتكم قتلت اليأس الذى أصابنا.. لقد استعادت مصر عافيتها بكم، فلا تضعفوا وتأملوا جيداً ما يحاك لكم من أجل إجهاض هذا المشروع الثورى الذى يفوق ثورة ١٩ وثورة ٥٢.. إنها ثورة الشباب فى التحرير ومن أجل التحرير من الفساد.. إن إخراج المساجين من السجون ليس صدفة ولكنه طرف من أطراف المؤامرة، ولم يخف عليكم وأصبح من فى البيوت حراساً للوطن.. مصر أقسمت دون أن تقسم.. تصرفت بتخطيط عفوى رائع من كيمياء المصريين العائدة.. لأن مصر هبة المصريين.. أصبح الشباب حراساً للبيوت.. أكملوا ثورتكم وحققوا أقصى مكاسب ولا تضيعوا دم الشهداء هدراً.. إن نجاحكم هو صلاة من أجل الشهداء.. ونجاحكم فى ثورتكم هو استعادة مصر لياقتها بعد أن أضاعتها حفنة أرادت لنفسها فقط حياة مختلفة، ولكنكم بثورتكم أوصلتم الرسالة جيداً، وفعلتم فى ثلاثة أيام ما لم تستطع مصر كلها أن تفعله فى ثلاثين عاماً.
امسحوا وجه مصر مما أصابها، واغسلوا ما لطخ تاريخها، فأنتم القادمون.. ونموت ونحن مطمئنون.