لم تكن الشعارات التى أطلقها شباب ٢٥ يناير وطافوا بها الشوارع ورددوها فى الميدان، مجرد كلمات وحسب، بل كانت سلاحهم الوحيد، استخدموها ليفكوا قيود الصمت التى أحاطتهم، حرروا بها أنفسهم من الخوف، فانطلقت شعاراتهم من حناجرهم بعفوية شديدة، كانت سلاحهم فى مواجهة الرصاص الحى والمطاطى الذى وجه إليهم، ودرعهم أمام القنابل المسيلة للدموع التى أدمعت قلوبهم قبل عيونهم، كانوا كلما اشتدت عليهم وطأة المعركة، تفننوا أكثر فى ابتكار شعاراتهم التى سيسجلها التاريخ، لم يستطع أحد أن يعتقل شعارا، أو يقتل فكرة أبدع شاب فى صياغتها، فانتصرت شعاراتهم، وانسحبت الرشاشات والقنابل.
خرج الشباب يوم ٢٥ يناير ينادون «كرامة حرية عدالة اجتماعية»، كان الحماس والأمل يملأ قلوبهم النضرة، وأحلام من أجل مستقبل أفضل لهم وأولادهم، خرجوا بعد أن قرروا محاربة الفساد وقتل الخوف بداخلهم، صرخوا بصوت عال «مش هنخاف مش هنطاطى، إحنا كرهنا الصوت الواطى»، توجهوا إلى ميدان التحرير ليتحرروا من قيود الظلم ويطالبوا بأوضاع أفضل وحياة أكرم، ولكن يبدو أن شعاراتهم ملأت قلوب من يعيشون تحت رعب القيود وظل القهر، فلم يجد الأمن سوى أن يطاردهم، وصوبت نحوهم قنابل مسيلة للدموع فى يوم ٢٥ يناير، وحاصرهم ٣ آلاف من قوات مكافحة الشغب و١٠ آلاف جندى مركزى ليمنعوهم من تنفيذ قرارهم بالاعتصام حتى الصباح، وفرقوهم ليطفئوا شرارة ثورة منذ بدأت والشباب يناودن بأنها « سلمية.. سلمية».
أعتقد البعض أنها نهاية الأمر، وأن الرصاص والقنابل انتصرت، وأفكار الشباب انسحبت، ولكنها كانت مفاجأة للجميع، فقد عاد الشباب، رافعين شعار «لا تراجع ولا استسلام»، وتجددت مظاهرات «الغضب» فى القاهرة وعدد من المحافظات، ورغم حصار الأمن لشوارع وميادين العاصمة، ووقوع اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، فإن الشباب ظلوا يرددون «عايز اتعلم عايز أعيش، عندنا فى البيت أكل مافيش»، و«كيلو الأوطه بـ١٠ جنيه ومتر مدينتى بنص جنيه»، «لا لقانون الطوارئ» و«حق أبويا مسامح فيه حق ابنى باقى عليه».
وقفوا أمام عساكر الأمن المركزى يؤكدون موقفهم، مرددين: «مش هنخاف مش هنطاطى إحنا كرهنا الصوت الواطى»، و «حضرات السادة الضباط بإديكم كم واحد مات»، واستخدموا بعض الأناشيد الوطنية فى هتافاتهم قائلين: «بحلف بسماها وبترابها الحزب الوطنى إللى خربها»، وعندما دعا الشباب إلى أن يكون يوم الجمعة هو يوم الغضب، وقامت أجهزة الأمن بقطع الإنترنت واتصالات المحمول، ومنعت تنظيم التجمعات الاحتجاجية أو المسيرات أو التظاهرات، خرج المتظاهرون، غاضبين يرددون «الشعب يريد إسقاط النظام»، بل إنهم أخذوا يحاولون حشد المواطنين إليهم للتوجه إلى ميدان التحرير قائلين «يا أهالينا ضموا علينا»، و«مسلم ومسيحى.. إيد واحدة»، حتى إن البعض كان يصعد إلى المنازل ويدق الأبواب، مرددين «إنزل شارك مش هتموت قبل الفرصة دى ما تفوت» و«اهتف اهتف على الصوت اللى هيهتف مش هيموت».
وعلت الحناجر وزادت المطالب واشتدت العزيمة وهلل المتظاهرون «ثورة ثورة.. حتى النصر.. ثورة فى كل شوارع مصر»، وبدا ميدان التحرير وكأنه ملحمة جمعت الكل تحت راية العلم، الكل جاء لهدف واحد، والكل أقسم ألا يعود إلا بعد تحقيقه، وحين نزل الجيش لحماية شعبه، علت الحناجر مرددة «الشعب والجيش إيد واحدة»، بل إن المواطنين نزلوا لحماية بيوتهم وشوارعهم جنبا إلى جنب أفراد الجيش، ثم بدأ المتظاهرون فى تغيير شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» إلى «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، بل وزاد غضبهم فقالوا «مش هنمشى هو يمشى» فى إشارة إلى رفضهم مغادرة ميدان التحرير قبل تحقيق مطالبهم، وأولها تنحى الرئيس مبارك، وعندما رابط الجميع فى الميدان أخذوا يتفننون فى كتابة بعض الشعارات التى تسخر من رفض الحكومة لتنفيذ مطالبهم، فكتب بعضهم شعارات «إمشى بقى إيدى وجعتنى» و«إمشى بقى عاوز أروح» و«إمشى بقى عاوز أنام» و «عفواً لقد نفد رصيدكم».
وحين قام بلطجية بالتوجه إلى ميدان التحرير لتفريق الشباب وقتل ثورتهم، وحدوا صفوفهم ودافعوا عن ثورتهم بدمائهم وأرواحهم فسقط منهم شهداء وأصيب المئات، فبدأوا يهتفون «يا مبارك فينك فينك دم الشهدا بينا وبينك» و«أهلا أهلا بالرصاص بس أموت مرفوع الراس».
وتشبثوا أكثر بتحقيق مطلبهم برحيل الرئيس وحددوا عبر شعاراتهم الأماكن التى من الممكن أن يرحل إليها قائلين: «آخر طلعة جوية، لازم تكون ع السعودية»، و«لو مش عاجبك جدّة يا مان، ممكن ترحل ع السودان لو مش عاجبك الرياض، مافيش قدُامك غير بغداد».
وحين اتهمهم البعض بالعمالة وبأن لهم أجندات سياسية لا تصب فى مصلحة مصر، لم يكن أمامهم سوى أن يحاربوا هذه الأفواه بشعارات قائلين «لا معارضة ولا أحزاب هى ثورة الشباب»، «ثورتنا ثورة شبابية ثورتنا من أجل الحرية» و «لا برادعى ولا أحزاب ثورتنا ثورة شباب».
وحين تعهد الرئيس مبارك فى خطابه بتعديل المادتين ٧٦ و٧٧ من الدستور، وبأنه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة، وقام بتعيين نائب له، وقف الشباب يهتفون «مابيفهمش عربى، كلموه بالعبرى» و«ارحل يعنى إمشى» فى إشارة إلى تمسكهم برحيل الرئيس.
حُطمت القيود وعلت الحناجر وبقيت الشعارات خير شاهد على شباب ثاروا انتقاما لقيود طوقت آباءهم ورغبة فى تحقيق الكرامة لأبنائهم، وما زالوا يرددون «ماتعبناش ما تعبناش.. الحرية مش ببلاش».