فى الميدان الواسع، سالت دماء، وصرخت حناجر، وبكت عيون...فى الميدان وعلى خلفية هتافات منغمة «الشعب يريد إسقاط النظام» و«تغيير حرية عدالة اجتماعية» بدأت تفاعلات بين المتظاهرين تنمو، وبدأت ملامح دولة صغيرة تظهر، دولة قوامها الأمان والعدالة والمشاركة.
بخطوات مرتبكة اقتربت من منصة إذاعة «الثورة» وبارتباك أكبر سألت «ممكن أقول حاجة فى المايك؟» وبررت ارتباكها بمجرد أن بدأت فى الحديث إلى آلاف المصريين المرابطين فى الميدان «أنا أخدت حبوب شجاعة عشان أقدر أتكلم فى المايك الآن، واندهشت أنهم سمحوا لى بسرعة رغم أننى لست شخصية عامة».. فى الميدان يرفع الجميع شعار «الجميع سواسية» أو كما يقول خالد الطبيب الصامد فى الميدان منذ السبت الأول «كلنا فى الميدان واحد.. ممكن أنا أقوم اتكلم فى مجموعة من الناس.. وبعيد عنى بـ١٠٠ متر دكتور علاء الأسوانى بيتكلم، وحسب كلام كل واحد منا الناس هتلتف حوله» ويختم كلامه «فى الميدان فقط، يوجد عدل ومساواة».
فى الميدان تنظم «اليوتوبيا» نفسها بنفسها، هنا الثوار يجمعون القمامة، وهنا آخرون ينقلون ما أتاحته التبرعات من ماء وطعام، هنا فقط فى ميدان التحرير، يعطى الشاب العجوز «البطانية» ويلقى على كتف الزميلة شاله الصغير، فى مدينة «التحرير» الفاضلة يقف محمد، طالب العلوم السياسية، ليكنس الميدان ويقول: «أول مرة فى حياتى أحس بانتماء لهذا البلد، هنا فى ميدان التحرير، هنا شعرت لأول مرة بمعنى كلمات لو لم أكن مصريا.. لوددت أن أكون مصريا، وهنا قررت أن أشارك فى حماية ميدانى ولو بكنسه وتنظيفه من القمامة لأن هذه القطعة من أرض مصر ملك حقيقى لأهلها الآن، ولابد أن تعكس صورتنا الجميلة طوال الوقت».
عودة إلى إذاعة «الثورة»، وحديث «منى» التى عرّفت نفسها «أنا مواطنة مصرية عادية جدا، مش مسيسّة، وعمرى ما فكرت إنى هنزل مظاهرة، وبعد ما شاهدته على مواقع الإنترنت من اشتباكات وعنف من الأمن تجاه المتظاهرين قررت النزول» وتكمل «فى البداية كنت خايفة من الزحام والشباب، ولكن بعد ٥ أيام فى الميدان يجب أن أقول إن الشاب الذى يخرج للتضحية بنفسه من أجل وطنه، هو الشاب الذى سيحافظ على بنات بلده.. أريد أن أشكر كل الشباب اللى فى الميدان الذين حافظوا علينا كإخوة لهم، والآن فقط أشعر فى شوارع مصر بالأمان»، أمان تتحدث عنه كانت تفتقده ومثيلاتها والآن يشعرن به فى الميدان، الذى تصفه السيدة «وفاء» الأربعينية، بــ«أكثر الأماكن أمنا فى مصر» لأنه «لو فى واحد فكر يعمل حاجة غلط، هيلاقى ١٠ يقولوا له لا، ولو أصر هيعاقبوه بالعقوبة الأشهر فى الميدان، ارحل.. ارحل، ويطردوه بره الميدان، لأنه مينفعش اللى بيحب بلده يأذى بناتها».
بخرطوم مياه يسير على أسفلت الميدان مثل ثعبان أبيض طويل ممتد، بدأ بعض الشباب الذى يبدو على ملابسه مستوى اجتماعى جيد فى مسح الأسفلت، ارتدى محمد قفازا بلاستيكيا وقبض على «مساحة» وبدأ فى العمل بجد، وبعد أن انتهى وجلس يلتقط أنفاسه على أحد الأرصفة المجاورة، قال «البلد بلدنا وبنظّفها، لسبب بسيط هو أن هذه المنطقة من مصر الآن أصبحت ملك لنا وتعبر عنا، الكل يعمل ويتشارك من أجل أن تكون الأفضل فى مصر كلها» «محمد» الذى كان يعد العدة للسفر خلال شهور، «لو كملنا وأنتصرنا فى معركتنا لن أسافر، كنت أرغب فى السفر فقط حتى أكون فى مكان يعطى كل صاحب حق حقه، والآن أملنا كبير فى أن تتحول مصر هذه إلى بلد عادل.. مثل ميداننا هذا».
دون قصد دهس الشاب الضخم قدم الرجل العجوز، فالتفت سريعا ورفع يده ليربت على كتف العجوز، الذى ربت بيدِ واهنة وابتسامة عريضة «ولا يهمك» روح ود تملأ الجو، ومدينة فاضلة صغيرة بدأت تتكون وتتشكل داخل الميدان، مدينة يحرس حدودها الجميع، فى كمائن صغيرة يتبادل الوقوف فيها، أعداد من الشباب الذى تنادى عليه الإذاعة فى «ورديات» مدة الواحدة ساعات معدودة، وعلى عكس كمائن الشرطة، كما يقول «محمد الهوارى»، الذى يكمل «كمائن» المدينة الفاضلة تعامل الجميع سواء، لا واسطة، ولا «إنت مش عارف أنا ابن مين» وفى النهاية هدف الكمين هو تأمين الميدان فقط وليس إهانة المواطنين.
حمل الرجل العجوز ورقة بيضاء كتب عليها «هنا دولة التحرير وهى تقوم على العدالة والكرامة والحرية... وخارج الميدان هناك دولة مبارك التى تستند إلى الفساد والاستبداد» لوحة تلخص الحالة فى الميدان الذى أقام فيه المسيحيون قداس عزاء للضحايا بالتزامن مع صلاة المسلمين الغائب على أرواح الضحايا بدون «قبلات وكلام مصطنع الوحدة الوطنية» كما تقول «نيرمين» المسؤولة عن إحدى الإذاعات داخل الميدان، وتكمل «فى الميدان الجميع واحد، والجميع متصالح ومتسامح، والجميع يعرف حدوده ويلتزم بالنظام» فى الميدان مدينة فاضلة صغيرة تحاول أن تمتد لتشمل مصر بأكملها».