مثلما نجح نتنياهو فى إجبار أوباما على التراجع وتغيير موقفه المبدئى من قضية الاستيطان، يبدو أنه نجح أيضا فى إجباره على التراجع لتغيير موقفه من الثورة المصرية رغم اقتناعه بضرورة رحيل مبارك وتخليه عن السلطة. ومن المعروف أن الإدارة الأمريكية كانت قد بدأت تقتنع، بعد فترة تردد وتخبط تحت تأثير الصدمة التى أحدثتها الثورة المصرية، بأن رحيل مبارك وتنازله عن سلطاته بات ضروريا للتوصل إلى توافق على «خارطة طريق» ترسم معالم مرحلة انتقالية لنقل السلطة سلميا إلى نظام سياسى جديد فى مصر.
غير أن إسرائيل، التى لم تكن تخفى إعجابها بمبارك وتعتبره «كنزاً استراتيجياً» لا يجوز لها أن تفرط فيه، أبدت انزعاجا شديدا من هذا التوجه الجديد، ورأت فيه استسلاما أمريكيا سريعا لمنطق أمر واقع جديد تحاول الثورة المصرية فرضه على جميع الأطراف فى الداخل والخارج. لذا قررت أن تقوم بتحرك فورى لتغيير دفة السياسة الأمريكية وإقناع أوباما بأن قيادة مبارك للمرحلة الانتقالية بنفسه تشكل الضمانة الأهم للسيطرة على تفاعلاتها المحتملة وللتأكد من أن مخرجاتها لن تلحق ضررا كبيرا بالمصالح الأمريكية فى المنطقة أو بأمن إسرائيل.
حين اضطرت الإدارة الأمريكية، تحت ضغط الضربات التى كالتها الثورة المصرية لنظام حليف، إرسال مبعوث خاص إلى مصر لمقابلة رأس هذا النظام، ساد وقتها انطباع مفاده أنه جاء لإقناع الرئيس مبارك بضرورة الرحيل للتمهيد لانتقال سلس للسلطة، غير أنه سرعان ما تبين أن المبعوث الأمريكى - والذى ربطته بالرئيس مبارك علاقة شخصية قديمة، ويدير حاليا مكتبا للاستشارات القانونية والتحكيم (بيتون بوجز) يمثل مصالح الحكومة المصرية فى العديد من المنازعات التجارية والاستثمارية - لم يمارس أى ضغط لإجبار الرئيس على التنحى، بل وأدلى بتصريحات تفيد بأنه يفضل بقاءه حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وأنه ربما يكون قد نصحه بالصمود فى وجه العاصفة. ورغم أن الإدارة الأمريكية، والتى صدمتها فيما يبدو تصريحات مبعوثها الخاص، حاولت التنصل منها، واعتبرتها معبرة عن موقفه الشخصى، فإن العديد من المراقبين رأوا فيها تعبيرا دقيقا عن حقيقة الموقف الرسمى الأمريكى، خصوصا بعد التحرك الإسرائيلى، كما رأوا فيها بصمات تشير إلى نجاح إسرائيل فى سحب الموقف الأمريكى إلى ملعبها.
للتحول فى الموقف الأمريكى دلالات بالغة الخطورة. فهو يعنى، أولا، أن الإدارة الأمريكية لم تعد تستطيع، حتى فى أوقات الأزمات الإقيمية والدولية الكبرى، اتخاذ موقف مستقل عن الموقف الإسرائيلى، وتضطر دوماً إلى ضبط إيقاع سياساتها ومواقفها على إيقاع السياسات والمواقف الإسرائيلية. ويعنى، ثانيا، أن إسرائيل تحاول أن تكون لها الكلمة الفصل فى ترتيبات إدارة المرحلة الانتقالية فى مصر على نحو يضمن التزام النظام الجديد، ليس فقط بمعاهدة السلام ولكن أيضا بانتهاج السياسات نفسها التى تبناها مبارك فى مرحلة ما بعد المعاهدة. ويعنى، ثالثا، أن إسرائيل والولايات المتحدة أصبحتا شريكين رئيسيين فى المحاولات الرامية إلى إجهاض الثورة المصرية وسرقة إنجازاتها.
ولأن هذا التحول فى الموقف الأمريكى يلقى بتبعات جديدة على الثورة المصرية ويدفعها لتوخى المزيد من اليقظة والحذر والتنبه لما يحاك لها من مؤمرات فى كواليس ومراكز صنع القرار على الصعيدين الدولى والإقليمى، يصبح واجبا على الأطراف الداخلية، التى تسعى للالتفاف على الثورة المصرية وتحاول إجهاضها، أن تدرك أن جهودها تصب مباشرة فى نهر المصالح الأجنبية، خاصة المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وأنها بذلك تضع نفسها، بوعى أو دون وعى، فى موقف يجعلها تتحرك كأدوات فى يد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
فمتى تقتنع الأطراف التى لاتزال تمسك برمانة الميزان فى معادلة الأزمة الراهنة فى مصر أن أى تأخير فى رحيل مبارك أو فى تسليم السلطة إلى حكومة توافقية ليس له سوى معنى واحد، وهو إفساح المجال لنتنياهو ليصبح مهندس المرحلة الانتقالية وراسم خارطة طريقها.