بيده المرتعشة بفعل الشلل راح ينقّب بين الأطلال عن غايته، وكلما التقطت يداه هدفاً وضعه فى التروللى.. ومن أطلال بيت إلى أطلال بيت آخر يتوقف قليلاً ليتذكر أصحاب الدار، ولهم معه ذكريات، تبدأ وتنتهى عند مقولة «لحم اكتافى من خيرهم».
يقولها باكياً، لكنه يواصل رحلة البحث عن كل ما له ثمن من بقايا وأنقاض بيوت بولاق أبوالعلا، التى هدمتها محافظة القاهرة، ونقلت سكانها إلى منطقة النهضة. بكاؤه ليس لمرض ولا بسبب معاناة، لكنه بكاء الحزن على فراق الجيران، والرغبة فى اللحاق بهم، فقد قضى بينهم أكثر من نصف عمره (٦٣ عاماً)، يسكن حجرة صغيرة فى شارع محمد قاسم فى السبتية.. ارتبط «عبدالله السيد»، خلال الـ٣٣ عاماً التى عاشها بينهم، بكل سكان المنطقة، وعوّضوه عن أسرته، بعد أن هجرته زوجته، وتوفيت بناته الرضيعات.
أمضى «عبدالله» أكثر من نصف المدة كأحد العاملين فى المعمار، حتى قضت المهنة على ما تبقى من صحته، وخرج منها إلى هيئة مترو الأنفاق، ليتقاعد على معاش ٢٤٣ جنيهاً شهرياً، قرر أن يكتب الرقم على كفه اليسرى، ليتذكره مطلع كل شهر، وكتب معه أيضاً احتياجاته الأساسية: ١٥٠ جنيهاً علاجاً شهرياً لالتهاب الأعصاب والشلل والقولون والقرحة، و٩٣ جنيهاً للأكل والشرب.
جلسته أمام المسجد وفرت عليه الكثير، فقد عوّضته صدقات سكان المنطقة وعطفهم المستمر عليه، وأصبح طعامه وشرابه «فرض عين» عليهم، يضعه كل منهم فى حسبانه حباً فى الرجل البسيط، وتقرباً إليه بعد أن أصبح مؤذنهم.
ولأن الحى أبقى من الميت، قرر «عبدالله» أن يستفيد من إزالة الحكومة لمنازل أصدقائه وجيرانه قبل أن يأتى عليه الدور، فاستأجر تروللى مياه غازية، ووضع فى داخله جوالا كبيراً وأخذ يمر على بيوت الأحباب، يقلّب فى أنقاضها بحثاً عن الخير، وكلما عثر على شىء وضعه فى جواله: «كرسى مكسور، شبكة ثلاجة، مقابض شباك، بقايا خشب وحديد».. كلها أشياء يجمعها ويسير بها إلى وكالة البلح، حيث يبيعها لتاجر محدد مقابل ٥٠ جنيهاً، تعوضه إلى حد ما عن غياب الجيران الذين كان يعتمد عليهم فى توفير كل احتياجاته.
«عبدالله» ينتظر بفارغ الصبر قرار إزالة غرفته الصغيرة، لينضم إلى جيرانه فى النهضة، لكنه تساءل والقلق يطل من عينيه: «يا ترى هلاقى مسجد هناك أقعد قدامه وأذِّن فيه؟».