ما من حاكم يطول به المقام على كرسىّ الحكم إلا وينتهى به الأمر إلى الإهانة وزرع الفتن داخل المجتمع الذى يحكمه.. ففى التاريخ الإسلامى لم يمكث الخليفة أبوبكر الصديق سوى عامين فقط فى حكم المسلمين، فى حين امتدت فترة الفاروق عمر إلى عشر سنوات وانتهت باستشهاده على يد مجوسى، ولما طال الحكم بعثمان بن عفان رضى الله عنه إلى ما يقرب من اثنى عشر عاماً وظل متشبثاً بالحكم – بعد أن تجاوز الثمانين من عمره - وتحدى من أرادوا خلعه من المسلمين فى نهاية حكمه وألقى فى وجههم بعبارته الشهيرة: «لا أخلع قميصاً ألبسنيه الله»، كانت النتيجة أن هجم عليه الثوار ليلقى وجه ربه.
وتنطبق هذه القاعدة على الكثير من المشاهدات فى التاريخ العربى الحديث والمعاصر، حين نلاحظ تلك الفصيلة من الحكام التى تمسكت بالحكم حتى آخر نفس، وطال بهم الأمد على مقاعدهم فكانت نهايتهم مهينة وخلّفوا وراءهم فتناً وثورات واصلت ملاحقة جرذان العهود البائدة، لتتأكد سنة الله فى خلقه: «ومن نعمّره ننكّسه فى الخلق أفلا يعقلون». فاستمرار الحاكم لفترة طويلة وعدم السماح بتداول الحكم بين أفراد الشعب - يؤدى إلى ظهور العديد من الأمراض التى تقضى على المجتمع فى النهاية.. فقد أبى الله أن يستأثر شخص أو فئة بالحكم حتى آخر العمر لأن ذلك يناقض سنة أساسية من السنن الكونية والمتمثلة فى تداول الحكم والسيطرة: «وتلك الأيام نداولها بين الناس».
أول هذه الأمراض يرتبط بظهور ما يسمى بـ«مراكز القوى». فالحاكم الذى يتواصل وجوده على مقعد السلطة لفترة طويلة يسقط ذلك على المسؤولين الذين يختارهم فى المواقع المختلفة فيمكثون لسنوات طوال قابعين على كراسيهم فى الوزارة والإدارة، والتجربة المصرية خير شاهد على ذلك. ومن الطبيعى أن تتحول القيادة الصغرى إلى مركز قوة بمرور الوقت بسبب سيطرة شعور خادع عليها بأنها غير قابلة للاستبعاد، وإحساس من يتعاملون معها بأنها باقية مادام الحاكم على كرسيه. وفى هذا السياق تنشأ فكرة استبداد المؤسسة وتبدأ - وهو المرض الثانى -فى ممارسة عمليات الإذلال المنظم على أفراد الشعب.
ويؤدى استبداد الحكم – بفعل سيطرة مراكز القوى على المجتمع – إلى انتشار الفساد فى جميع الأنحاء. وتتنوع مظاهر الفساد فى هذه الحالة ويكون أهونها هو السرقة والنهب والرشوة والغش، أما أعلاها فيتبلور حول فكرة الاحتكار: احتكار السلطة، واحتكار السلع والخدمات، واحتكار الأراضى، بل احتكار البشر الذين يعيشون فوق الأرض، بسبب السيطرة على مصائرهم!. فالفساد هو الابن الشرعى للطغيان وحكم الناس على غير رضاهم أو اختيارهم.
أما المرض الثالث من أمراض «الحاكم طويل الأمد» فيرتبط ببروز دور أفراد عائلته فى السياسة والاقتصاد والاجتماع وتدخلهم بصورة محسوسة فى صناعة القرار فى هذه المجالات. وقد ظهر هذا الأمر بصورة جلية داخل العديد من الدول العربية وعلى رأسها مصر، حين يصعد دور السيدة الأولى وأبناء الرئيس ويشكلون أضلاعاً أساسية من أضلاع الحكم . فمرور الزمن والتقدم فى العمر يفرضان على الحاكم أن يشرك معه غيره فى صناعة القرار أو أن يطمع غيره فى ذلك، والتصرف الآمن فى هذه الحالة يقتضى منه أن يمنح ذلك لأفراد أسرته، اعتقاداً منه بأن أحدهم لن يفكر فى الانقلاب عليه!.
وعندما يتقدم العمر بالحاكم أكثر وأكثر، فإنه يفقد ذاكرته ويبدأ فى نسيان شعبه ووعوده لأبناء شعبه. ينسى الفقراء ومعاناتهم والمرضى وأوجاعهم والمظلومين ودعاءهم والغاضبين وصرخاتهم والمقهورين ونداءاتهم.. فالكبر يؤدى إلى إيثار العزلة، وطول فترة البقاء فى الحكم يؤدى إلى تراخى الحاكم فى متابعة أوضاع شعبه بنفسه ويزيد اعتماده على بطانته فى معرفة أحوال الناس. وبطانة السوء فى كل عصر مدربة على أن وسمع الحاكم الكلام الذى يحبه والذى يرتضيه، كما أنه لن يرضى منها بغير ذلك وإلا لما اختارها!. وتلعب هذه البطانة دوراً محورياً فى زيادة الفجوة بين الحاكم والشعب ليفاجأ الأول فى النهاية بأصوات الناس الهاتفة برحيله.
تلك هى أمراض الحاكم «طويل الأمد» فى كل عصر، حتى لو اتصل الأمر بواحد من أفضل الأفاضل من الحكام وهو الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الذى طعنت به السن وامتدت به فترة الحكم، مما أدى إلى ظهور أمراض احتكار السلطة والثروة وبروز دور العائلة وعزلة الحاكم عن القاعدة العريضة من المسلمين، وكانت النتيجة قتل الخليفة الراشد، وانتشار الفوضى فى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمدة ثلاثة أيام ثم دخول المسلمين بعد ذلك فى فتنة تورط فيها الجميع حتى استقرت أحوال الدولة بعد حروب مريرة، وكان السر فيما حدث – كما تحكى كتب التراث - أن الناس «استطالوا حياته وملوه – أى عثمان - مع فضله وسابقته».
حدث ذلك بالنسبة لحاكم نبيل لم يكن يقود حزباً كالحزب الوطنى، ولم يكن لديه رجال أعمال مثل أحمد عز أو وزراء مثل بدر وغالى والجبلى وخلافه، ولم يزوّر انتخابات مجلس شعبه أو شوراه ولم يستخدم بلطجيته فى سحق شعبه عندما قالوا له: «ارحل».. فما بالنا بمن فعل كل ذلك؟!.