قائد الطائرة ينطلق بها ولا يعرف وجهته، ويسأل فخامة «الديكتاتور المخلوع»: يا سيادة الرئيس القائد إلى أين سنتجه؟، يجيب: «اطلع الأول بسرعة يا غبى قبل ما يمسكونا وبعدين ربنا يفرجها»، ثم يخرج «المخلوع» الموبايل من الجيب الداخلى لبذلته الأنيقة ويبدأ فى الاتصال بزملائه خريجى «المدرسة الديكتاتورية الثانوية المشتركة» غير مكترث بتحذيرات قائد الطائرة وبخطورة تشغيل الهاتف على «نظام» الاتصال داخلها.
يتصل القائد بصديقه الديكتاتور الكبير، الذى كان يفضل دائما التشاور معه فى أحدث وسائل إذلال الشعوب. بعد ٥ رنات يرد عليه زميله بتحفظ: «قلبى معاك يا أخى .. لسه شايف فى قناة الجزيرة دلوقت الثورة الشعبية ضدك.. وعرفت إنك ركبت الطائرة.. ربنا معاك وتوصل بالسلامة».
الهارب: «أفهم من كلامك إنك هتستقبلنى عندك.. هو ده العشم برضه.. إنت طول عمرك راجل وقت الشدة.. وربنا يقدرنى وأرد لك الجميل ده عند أى انقلاب أو ثورة عليك..».
الزميل صائحا: «انقلاب إيه وثورة إيه.. حسّن ألفاظك يا مخلوع.. إنت فهمتنى غلط.. موضوع استضافتك مش بإيدى.. لازم موافقة البرلمان والشعب.. إنت فاكرنى زيـّك. عموما اتصل بى بعد ٥ دقائق أكون أخدت فيها موافقة النواب نائبا نائبا والشعب مواطنا مواطنا.. دى الأصول طبعا».
تمر الخمس دقائق وكأنها خمس سنوات على عقل الهارب، ثم يتصل مسرعا بصديقه، ليجد هاتفه مغلقا مع رجاء ترك رسالة صوتية.. فيترك له رسالة نصها: «عارفك طول عمرك ندل وبتاع مصلحتك.. وافتكر كلامك لما كنت تقولى الديكتاتور لأخيه الديكتاتور كالبنيان المرصوص».
يبدأ القائد إجراء اتصالات أخرى بأصدقائه، ويسمع ردودا متنوعة.. مرة أحدهم يقول: «والنبى أنا مكسوف منك، ولو كان بإيدى كنت قعّدتك معايا فى القصر الجمهورى وتحكم يومين أو ثلاثة كل شهر، لإنى عارف إن الزمار يموت وصباعه بيلعب، لكن إنت عارف إن القصر عندنا ضيق، وكل واحد من ولادى واخد حجرة.. عموما لو الظروف سمحت وقدرت أقنع كل إتنين من الأولاد يقعدوا مع بعض صدقنى سأتصل بك طبعا». ومرة سمع الرئيس المخلوع اعتذارا رقيقا ممن ظنه صديقه المقرب بدعوى أن ظروف البلد الاقتصادية صعبة، قبل أن يحلف له بالطلاق أنه يحرم نفسه من السيجار الكوبى الذى يحبه ويكتفى بالسجائر المحلية العادية، توفيرا للنفقات. وفى المرة الثالثة اقترح زميل على الرئيس أن يهبط بطائرته فى الصومال، لعدم وجود حكومة تسيطر على كل الدولة، وأنه يستطيع أن يختار أى منطقة ويبنى له فيها قصرا بفلوسه التى يحملها معه طبعا على الطائرة، لكنه نصحه بأن يعطى «إكرامية» للقراصنة هناك، حتى لا يضايقوه ويخطفوه بقصره طلباً لفدية. ثم يضيف ضاحكا: «طبعا أنا عارف إنهم لو خطفوك.. فلن يجدوا أحدا يدفع لهم مقابل الإفراج عنك.. ها ها ها ها».
يشعر الهارب بإهانة كبيرة، ويقسم للسيدة الأولى التى تجلس بجانبه أن كل هؤلاء الحكام خسارة فيهم لقب ديكتاتور، ويسترجع شريط ذكرياته معهم، وكيف أنه لم يبخل عليهم بعصارة خبرته فى أصول احتكار السلطة واحتقار الشعب، ثم يقول لنفسه: «عموما أول ما أخلص من المشكلة دى هعرف شغلى معاه..». وقبل أن يستكمل تهديداته فارغة المضمون يأتيه صوت قائد الطائرة: «يا فخامة الديكتاتور قبل ما تعرف شغلك معاهم.. خلّصـنى أولا مما أنا فيه.. أنا أطير بالطائرة منذ هروبنا قبل ٢٢ ساعة.. لقد تعبت، وأقترح أن نهبط فى جزيرة مهجورة بالمحيط الهندى لقضاء ليلتنا. يوافق الجميع وينزلون الجزيرة. وقبل أن يهم الرئيس بالنوم تلمحه سمكة قرش تعرف قصته، فتستدعى إخوانها الأسماك ويخرجون فى مظاهرة حاشدة ضده فى المحيط ويطلبون رحيله.
يهرب المخلوع مرة أخرى، وأثناء الطيران يتذكر ديكتاتورا لم يتصل به من قبل، فيخرج هاتفه ويطلب رقم الزميل، لكنه فوجئ بأن رصيده نفد من كثرة اتصالاته مع السابقين، فيرسل له رسالة نصها: «كلمنى.. شكرا».
بعد عدة ساعات، يتصل به الزميل، ويقول له بلهجة حاسمة إنه
استشف مضمون طلبه من الرسالة، وإنه لا يستطيع استضافته، لكنه حرصا فقط على «العيش والملح» الذى كان بينهما سيقدم له خدمة عظيمة، وقال: «تستطيع فقط أن تحـّلق بطائرتك فوق أجواء بلدى كلما نفد وقود طائرتك.. وتنتظر فوق وسأرسل لك مندوبا بالوقود اللازم.. ثم تخرج سريعا، وهكذا تعود كلما احتجت شيئا».
وهكذا يبقى المخلوع بقية عمره محلقا فى الجو، وبعدها يستدعى أولاده وزوجاتهم معه على الطائرة.
مرت سنوات ومع زيادة نسل الأسرة تضيق بهم الطائرة، فيلجأ إلى صديقه، ليطلب الوقود المعتاد، وطائرة أخرى ينقل إليها الأحفاد!