فى حضن الميدان يسكن آلاف المتظاهرين، هجروا منازلهم بكل ما فيها من سبل الراحة ليحتموا بتراب المكان، تنفسوا فيه الحرية، فصارت منازلهم خيماً بلاستيكية تقيهم من الأمطار، وأخرى من الأقمشة تبث فيهم الدفء وقت شعورهم بالبرد.. اختلفت أذواقها وأشكالها على اختلاف طوائفهم، منهم من وجد فى أرصفة الميدان أسرة يلجأون إليها عند شعورهم بالتعب، وآخر صنع من جدران المبانى الحكومية الملاصقة للميدان مأوى يسكن إليه هو وأفراد أسرته طيلة فترة تظاهره.. اللافتات التى تعلو كل خيمة فى المكان تدلك على طبيعة الأفراد الموجودين بداخلها، فصار بعضها أشبه بعنوان جديد لمن يريد التعرف على من فيها، بعضهم اعتبر خيمته بمثابة فيلا فكللها بعبارة «فيلا التحرير»، ومنهم من وجدها مأوى الحرية فدون عليها «بنسيون الحرية»، لتصبح فى النهاية بيوت المتظاهرين فى ميدان التحرير.
مظلة بلاستيكية طويلة تمتد بامتداد الرصيف الملاصق لمبنى مجمع التحرير، لافتة كبرى تحمل عبارة «فيلا الثورة.. غض البصر»، يسكن بداخلها عشرات من الشباب الذين قدموا من محافظة الدقهلية، أغلبهم من مدينة المنصورة جاءوا بعد أحداث الأربعاء الدامى، يهتفون ضد الفساد وضد النظام الأمنى، على حد تعبيرهم، يقول ماهر محمد السيد أحد المعتصمين: «عمرى ٣٦ عاماً مشفتش غير عهد مبارك.. الواحد زهق ومحتاج التغيير»، بيتهم الذى صنعوه من خيمة بلاستيكية يجدون فيها «العزة والكرامة» فعلى حد وصفهم: «حاسين بفخر إننا هنا فى ميدان التحرير.. ومش هنمشى إلا لو اتغير النظام كله»، لافتات كثيرة يضعونها أعلى الخيمة الكثير منها يسجل مواقفهم تجاه ما يحدث فدون عليها عبارة «اعتصام اعتصام.. حتى يرحل النظام»، وأخرى تقر باعتزازهم بمصريتهم «قبل ٢٥ يناير كنت مستعد أتنازل عن الجنسية المصرية.. أما الآن أتشرف إنى مصرى».
بناء الخيام فى الميدان صار أمراً طبيعياً ومألوفا، وباتت كل لحظة تمر بداخله تسجل ميلاد خيمة جديدة لتضم بها مجموعة جديدة قررت البقاء فى الميدان وسط آلاف المعتصمين، يقف محمود طاهر ممسكا بسيخ حديدى فى يده أحضره من مكان قريب إلى الميدان، وبدأ فى صناعة خيمة من «مشمع بلاستيك»، اشتراه ببضعة جنيهات، ووجد أن ما يفعله يجسد حقيقة واحدة وهى على حد قوله: «الحاجة أم الاختراع»، قال إن بقاءه لأكثر من أسبوع فى الميدان، وقدومه من قريته بمحافظة الفيوم لمشاركة الشباب فى تظاهرهم ما هو إلا واجب وطنى لا يمكن أن يتنازل عنه فيقول: «إحنا هنا من يوم جمعة الرحيل.. عايزين نغير الظلم والفساد اللى فى كل مكان، عايزين حياة كريمة وعادلة».
فيما علت لافتة إحدى الخيام الكبرى فى المكان لتعلن عن تواجد شباب مركز ومدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ، يقول السعيد عبدالغنى، طالب بالثانوية العامة، أصر على التواجد وسط المتظاهرين والبقاء معهم لحين تنفيذ مطالب الثورة الشبابية، التى انطلقت يوم ٢٥ يناير الماضى، فهى وعلى حد تعبيره: «دى اللى رجعت لنا الروح المسلوبة مننا ومش ممكن نضحى بدم الشهداء والناس اللى إتقتلت علشان إحنا نعيش حياة كريمة».
مساكن المتظاهرين تنوعت بين خيم جاهزة الصنع وأخرى بدائية الصنع لكن أحد الشباب آثر أن يقيم خيمته من البطاطين التى وجدت بكثرة داخل الميدان فعبدالله محمد، أحد الذين حضروا من محافظة بورسعيد، مصطحبا زوجته وطفلته للتظاهر، يقول: «أنا جبت أسرتى وجيت لأن لازم نغير بلدنا بإيدينا.. كانوا بيخوفونا من التفرقة، دلوقتى، وفى ميدان التحرير المسلم جنب المسيحى إيد واحدة، وكلهم جنب بعض، كانوا فاكرين إننا هنخاف وهنجرى منهم إنما إحنا قاعدين لحد ما همه يمشوا»، عبدالله قرر بناء خيمته بالبطاطين حتى ينقذ طفلته من برودة الجو ليلا، يقول: «قعدتنا شكلها هتطول بس لو طال الانتظار إحنا قاعدين لحد ما يتغير النظام».
شاب آخر آثر أن يدون على خيمته الصغيرة كلمات يعبر بها عن شعوره بالحرية فكتب يقول: «بنسيون الحرية» ليؤكد فيها أن ما يشعره ويعيشه الآن هو الحرية بعد الثورة.
المكان لا يخلو من لافتات تعلن عن اعتصام العديد من المواطنين الذين قدموا من محافظات مصر المختلفة، فمحافظة الشرقية تحظى بخيمة كبيرة تضم بداخلها عشرات المعتصمين الذين أقروا بأن وحدتهم وطريقهم للحرية لن يأتيا إلا بالبقاء داخل ميدان التحرير.