لم أتصور أن الحكمة التى تقول إنه «لو كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب» هى حكمة صحيحة دائماً، ففى تقديرى أن الكلام هو من يقدم صاحبه، وبالتالى فإن الحكام أو مساعديهم يتعين عليهم أن يتكلموا حتى تراهم شعوبهم وتحكم عليهم، ولكن فى هذا الظرف الدقيق يتعين على من يتكلم من أهل الحكم أن يراجع كلماته بدقة أو يصمت، فحكم المصريين أصبح قاسياً على الطغاة أو سيئى التقدير إلى درجة المطالبة برحيلهم ليس فقط عن مناصبهم بل عن الوطن كله..
أقول هذا بمناسبة ما قرأته يوم ٥ فبراير فى «المصرى اليوم» كعرض لحوار نائب الرئيس مع شبكة «إيه.بى.سى» الإخبارية الأمريكية.. وقد لفت انتباهى فى حواره أمور ثلاثة: الأول هو نفيه التام مقتل متظاهرين بنيران قناصة، والثانى هو تأكيده التام أن المتظاهرين مدعومون من أجانب، والثالث هو إقراره الجازم بأن الجماعات المؤيدة للرئيس تصرفت على نحو جيد!!. أما عن الأمر الأول فتكذبه الوقائع فمن المؤكد أنه فى يوم ٣ فبراير على الأقل قتل مهندس أب لطفلين برصاص قناص من مسافة بعيدة لا يمكن لها أن يصيب منها إنسان،
أما عن الأمر الثانى فيمكن لى أيضا أن أكذبه بنفسى فالثورة على الظلم والطغيان والتعذيب والفساد وبيع الغاز إلى إسرائيل بأبخس الأثمان ونهب أراضى الدولة ونهب أموال الناس وأكلها بالباطل وتزوير الانتخابات بفجاجة، رغم تأكيد الرئيس أنها ستكون نزيهة، وقتل المتظاهرين السلميين بالرصاص الحى، وغير ذلك من المظالم التى طبعت نهايات عهد الرئيس لا يحتاج إلى أجانب يقفون وراء المظاهرات والاحتجاجات، ولكن يحتاج إلى نفوس أبية ترفض الظلم وتمقته وتكافح ضده،
أما الأمر الثالث فتكذبه الصور المنشورة والدماء التى صبغت أرض ميدان التحرير، فأنصار الرئيس هاجموا الميدان بالخيل والجمال، حاملين إلى جانب صور الرئيس مبارك السيوف والسكاكين وقنابل المولوتوف وغيرها من الأسلحة بما فيها الأسلحة النارية. إذاً فكل ما قاله سيادة النائب ينم إما عن عدم إطلاع أو مرواغة وكلاهما مذموم فى تلك الظروف الحساسة، على أن السيد النائب لم يقل كلمته فى اقتحام عناصر الشرطة العسكرية لمقار منظمات حقوق الإنسان واعتقال قادتها دون سبب إلا من كشف الجرائم التى تحدث ضد المتظاهرين العزل،
كما لم يقل كلمته فى أسباب إلقاء الشرطة العسكرية القبض على كل من يحمل كاميرا تصوير يدخل بها ميدان التحرير أو يخرج بها منه، فى حين أنها لا تقترب ممن يحملون السكاكين والسيوف، ويمنعون كل من يحمل طعاماً للدخول به إلى الميدان بقصد أن يموت المتظاهرون جوعاً وعطشاً، ولم يقل كلمته فى أسباب امتناع الشرطة العسكرية عن إلقاء القبض على من يروعون المارة فى الشوارع المحيطة بميدان التحرير،
كما لم يقل كلمته فى هذا الموقف السلبى غير المفهوم لقوات الجيش بين من يمارسون حقهم فى التعبير بشكل سلمى وبين من يهاجمونهم ليل نهار من ميدان طلعت حرب وعبدالمنعم رياض وشارع محمد محمود وشارع الفلكى بالطوب والحجارة، مع أن حياد القوات المسلحة يقتضى حماية المتظاهرين وإلقاء القبض على من يتعرضون لهم.. كنت أتصور أن يقول سيادة النائب إن التحقيقات تجرى الآن فى كل تلك الوقائع، وإنه لا يريد أن يقفز إلى استنتاجات قبل نهاية التحقيق، ولكننى لا أفهم أن يجزم بما هو مخالف للحقيقة التى يراها الجميع، وأن يقول فوق كل ذلك إن الشرطة تصرفت بشرف مع المتظاهرين، فليس من الشرف أن تقتل الشرطة المسلحة المتظاهرين العزل أو تصيبهم إصابات مميتة، مازلت أذكر هتاف المواطنين فى المظاهرات «عايزين الجيش يحمينا.. الشرطة بتضرب فينا»،
ومازلت أرى ترحيبهم الحار بقوات الجيش، ولا أريد لتصريحات من نوع ما أدلى به سيادة النائب أن تعكر صفو العلاقة بين الجيش والشعب، والتى هى علاقة احترام عميق لا يمكن أن تنفصم، فالجيش هو جيش الشعب يحمى الدولة ولا يحمى نظام حكم بذاته.. سيادة النائب اخرج على الناس وأعلن أن تحقيقات ستتم فيما تلى يوم ٢٥ يناير بميدان التحرير، أعط أوامرك إلى رجال القوات المسلحة بمطاردة من يروعون الآمنين فى الشوارع والمعتصمين فى ميدان التحرير، فلا يكفى أن تقول إنك لن تدفع هؤلاء إلى ترك الميدان والعودة إلى بيوتهم إن كنت سوف تترك البلطجية يقومون عن الحكومة بهذا العمل.